فصل: سورة ألم نشرح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.سورة ألم نشرح:

هي ثمان آيات.
وهي مكية بلا خلاف.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت: {ألم نشرح} بمكة.
وزاد: بعد الضحى.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة {ألم نشرح} بمكة.

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}
معنى شرح الصدر: فتحه بإذهاب ما يصدّ عن الإدراك. والاستفهام إذا دخل على النفي قرّره، فصار المعنى: قد شرحنا لك صدرك. وإنما خصّ الصدر؛ لأنه محل أحوال النفس من العلوم، والإدراكات. والمراد: الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم بفتح صدره، وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة، وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوّة، وحفظ الوحي، وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22] {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} معطوف على معنى ما تقدّم، لا على لفظه، أي: قد شرحنا لك صدرك، ووضعنا... إلخ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

أي: أنتم خير من ركب المطايا، وأندى... إلخ. قرأ الجمهور: {نشرح} بسكون الحاء بالجزم، وقرأ أبو جعفر المنصور العباسي بفتحها. قال الزمخشري: قالوا لعله بين الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها.
وقال ابن عطية: إن الأصل (ألم نشرحن) بالنون الخفيفة، ثم إبدالها ألفاً، ثم حذفها تخفيفاً، كما أنشد أبو زيد:
من أي يوميَّ من الموت أفر ** أيوم لم يقدّر أم يوم قدر

بفتح الراء من {لم يقدر}. ومثله قوله:
اضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس

بفتح الباء من اضرب. وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم ب {لم}، وهو قليل جداً كقوله:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ** شيخا على كرسيه معمما

فقد تركبت هذه القراءة من ثلاثة أصول، كلها ضعيفة: الأول توكيد المجزوم ب {لم}، وهو ضعيف. الثاني إبدالها ألفاً، وهو خاص بالوقف، فإجراء الوصل مجرى الوقف ضعيف. والثالث: حذف الألف، وهو ضعيف أيضاً؛ لأنه خلاف الأصل، وخرّجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون ب (لم) ويجزمون ب (لن)، ومنه قول الشاعر:
في كل ما همّ أمضى رأيه قدما ** ولم يشاور في إقدامه أحدا

بنصب الراء من {يشاور}، وهذه اللغة لبعض العرب ما أظنها تصح. وإن صحت، فليست من اللغات المعتبرة، فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها. وعلى كل حال، فقراءة هذا الرجل مع شدّة جوره، ومزيد ظلمه، وكثرة جبروته، وقلة علمه ليس بحقيقة بالاشتغال بها. والوزر: الذنب، أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية. قال الحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل: المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ثم وصف هذا الوزر فقال: {الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ}.
قال المفسرون: أي أثقل ظهرك. قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض، أي: صوت، وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملاً يحمل لسمع نقيض ظهره، وأهل اللغة يقولون: أنقض الحمل ظهر الناقة: إذا سمع له صرير، ومنه قول جميل:
وحتى تداعت بالنقيض حباله ** وهمت ثواني زوره أن تحطما

وقول العباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطويت منهم ** وكنت عليهم مشفقا متحننا

قال قتادة: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له، وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوّة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له: وكذا قال أبو عبيدة وغيره. وقرأ ابن مسعود: {وحللنا عنك وقرك}. ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال الحسن: وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلاّ ذكر معه صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي، فيقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أن محمداً رسول الله. قال مجاهد: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} يعني: بالتأذين. وقيل المعنى: ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، وأمرناهم بالبشارة به. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وعند المؤمنين في الأرض. والظاهر أن هذا الرفع لذكره الذي امتنّ الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجلّ أن من صلّى عليه، واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وأمر الله بطاعته كقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] وقوله: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7]، وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] وغير ذلك. وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السموات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق، والذكر الحسن، والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده، {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21] اللَّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان، وما أحسن قول حسان:
أغرّ عليه للنبوّة خاتم ** من الله مشهور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبيّ مع اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد

{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي: إن مع الضيقة سعة، ومع الشدّة رخاء، ومع الكرب فرج. وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسير يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين. ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريراً وتأكيداً، فقال: مكرّراً له بلفظ {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي: إن مع ذلك العسر المذكور سابقاً يسراً آخر لما تقرّر من أنه إذا أعيد المعرّف يكون الثاني عين الأوّل سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المنكر إذا أعيد، فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأوّل في الغالب، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية: «لن يغلب عسر يسرين» قال الواحدي: وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد، واليسر اثنان. قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين. قيل، والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم، وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرّر. قرأ الجمهور بسكون السين في العسر، واليسر في الموضعين. وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو جعفر، وعيسى بضمها في الجميع.
{فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} أي: إذا فرغت من صلاتك، أو من التبليغ، أو من الغزو، فانصب، أي: فاجتهد في الدعاء، واطلب من الله حاجتك، أو فانصب في العبادة. والنصب: التعب. يقال: نصب ينصب نصباً، أي: تعب. قال قتادة، والضحاك، ومقاتل، والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة يعطك، وكذا قال مجاهد. قال الشعبي: إذا فرغت من التشهد، فادعو لدنياك وآخرتك، وكذا قال الزهري.
وقال الكلبي أيضاً: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب أي: استغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات.
وقال الحسن، وقتادة: إذا فرغت من جهاد عدوّك، فانصب لعبادة ربك.
وقال مجاهد أيضاً: إذا فرغت من دنياك، فانصب في صلاتك، {وإلى رَبّكَ فارغب} قال الزجاج: أي: اجعل رغبتك إلى الله وحده. قال عطاء: يريد أنه يضرع إليه راهباً من النار، راغباً في الجنة. والمعنى: أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائناً من كان، فلا يطلب حاجاته إلاّ منه، ولا يعوّل في جميع أموره إلاّ عليه. قرأ الجمهور: {فارغب} وقرأ زيد بن عليّ، وابن أبي عبلة: {فرغب} بتشديد الغين، أي: فرغب الناس إلى الله، وشوّقهم إلى ما عنده من الخير.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قال: شرح الله صدره للإسلام.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» وإسناد ابن جرير هكذا: حدّثني يونس أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج.
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى به.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} الآية، قال: لا يذكر الله إلاّ ذكر معه.
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، وحياله جحر، فقال: «لو دخل العسر هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» فأنزل الله: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} ولفظ الطبراني: «وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}».
وأخرج ابن النجار عنه مرفوعاً نحوه.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أيضاً مرفوعاً نحوه، قال السيوطي، وسنده ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الصبر، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود مرفوعاً: «لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه، فيخرجه، ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}» قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلاّ عائذ بن شريح. قال فيه أبو حاتم الرازي: في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرّة عن رجل عن عبد الله بن مسعود.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، والحاكم، والبيهقي عن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرحاً مسروراً وهو يضحك، ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}» وهذا مرسل.
وروي نحوه مرفوعاً مرسلاً عن قتادة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} الآية قال: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، واسأل الله، وارغب إليه.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال الله لرسوله: إذا فرغت من الصلاة وتشهدت، فانصب إلى ربك واسأله حاجتك.
وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن ابن مسعود: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} إلى الدعاء. {وإلى رَبّكَ فارغب} في المسألة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} قال: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل.

.سورة التين:

هي ثمان آيات.
وهي مكية في قول الجمهور.
وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: أنزلت سورة التين بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا ولا قراءة منه.
وأخرج الخطيب عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فقرأ: {والتين والزيتون}.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده والطبراني عن عبد الله بن يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب {والتين والزيتون}.
وأخرج ابن قانع وابن السكن والشيرازي في الألقاب عن زرعة بن خليفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، فلما صلينا الغداة قرأ بالتين والزيتون، و{إنا أنزلناه في ليلة القدر}.

.تفسير الآيات (1- 8):

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}
قال أكثر المفسرين: هو التين الذي يأكله الناس {والزيتون} الذي يعصرون منه الزيت، وإنما أقسم بالتين؛ لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص، وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك، وجعلها على مقدار اللقمة. قال كثير من أهل الطب: إن التين أنفع الفواكه للبدن، وأكثرها غذاء، وذكروا له فوائد، كما في كتب المفردات والمركبات، وأما الزيتون، فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية.
وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى.
وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس؛ وقال قتادة: التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وقال عكرمة، وكعب الأحبار: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس.
وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل. وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية. قال الفراء: سمعت رجلاً يقول: التين جبال حلوان إلى همدان، والزيتون جبال الشام. قلت: هب أنك سمعت هذا الرجل، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبت اللغة، ولا هو نقل عن الشارع.
وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء. وقيل: إنه على حذف مضاف، أي: ومنابت التين والزيتون. قال النحاس: لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوِّز خلافه.
{وَطُورِ سِينِينَ} هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى اسمه الطور، ومعنى {سينين}: المبارك الحسن بلغة الحبشة قاله قتادة.
وقال مجاهد: هو المبارك بالسريانية.
وقال مجاهد، والكلبي: {سينين} كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النبط. قال الأخفش: طور جبل، وسينين شجر، واحدته سينة. قال أبو علي الفارسي: سينين، فعليل، فكرّرت اللام التي هي نون فيه، ولم ينصرف سينين، كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسماً للبقعة. وإنما أقسم بهذا الجبل؛ لأنه بالشام، وهي الأرض المقدسة، كما في قوله: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وأعظم بركة حلت به، ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه. قرأ الجمهور: {سينين} بكسر السين. وقرأ ابن إسحاق، وعمرو بن ميمون، وأبو رجاء بفتحها، وهي لغة بكر وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والحسن، وطلحة: {سيناء} بالكسر والمدّ. {وهذا البلد الأمين} يعني: مكة، سماه أميناً؛ لأنه آمن، كما قال: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67]. يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين. قال الفراء وغيره: الأمين بمعنى الآمن، ويجوز أن يكون، فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هذا جواب القسم، أي: خلقنا جنس الإنسان كائناً في أحسن تقويم وتعديل. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلاّ الإنسان، خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل. يقال: قوّمته، فاستقام. قال القرطبي: هو اعتداله واستواء شأنه، كذا قال عامة المفسرين. قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» يعني: على صفاته التي تقدم ذكرها. قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} [الشورى: 11] وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق، وعجيب الصنع، فلينظر في كتاب: العبر والاعتبار للجاحظ، وفي الكتاب الذي عقده النيسابوري على قوله: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وهو في مجلدين ضخمين.
{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أي: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم، والضعف بعد الشباب والقوّة، حتى يصير كالصبيّ، فيخرف وينقص عقله، كذا قال جماعة من المفسرين. قال الواحدي: والسافلون هم: الضعفاء، والزمناء، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً.
وقال مجاهد، وأبو العالية، والحسن: المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] فلا مانع من كون الكفار، والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل، وقوله: {أَسْفَلَ سافلين} إما حال من المفعول، أي: رددناه حال كونه أسفل سافلين، أو صفة لمقدر محذوف، أي: مكاناً أسفل سافلين {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هذا الاستثناء على القول الأوّل منقطع، أي لكن الذين آمنوا إلخ، ووجهه أن الهرم والردّ إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن، كما يصاب به الكافر، فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى. وعلى القول الثاني يكون الاستثناء متصلاً من ضمير {رددناه}، فإنه في معنى الجمع، أي: رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 3] {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غير مقطوع، أي: فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم؛ فهذه الجملة على القول الأوّل مبينة لكيفية حال المؤمنين، وعلى القول الثاني مقرّرة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الردّ، وقال: أسفل سافلين على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع، ولو قال: أسفل سافل لجاز؛ لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد.
وقيل: معنى رددناه أسفل سافلين: رددناه إلى الضلال، كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] أي: إلاّ هؤلاء، فلا يردّون إلى ذلك.
{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} الخطاب للإنسان الكافر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وإلزام الحجة، أي: إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أي: أيّ شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة، فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين. قال الفراء، والأخفش: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين، كأنه قال: من يقدر على ذلك؟ أي: على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر، واختار هذا ابن جرير. والدين الجزاء، ومنه قول الشاعر:
دنَّا تميما كما كانت أوائلنا ** دانت أوائلهم من سالف الزمن

وقال الآخر:
ولما صرّح الشر ** فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا ** ن دنَّاهم كما دانوا

{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي: أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً؟ حتى تتوهم عدم الإعادة والجزاء. وفيه وعيد شديد للكفار. ومعنى: أحكم الحاكمين: أتقن الحاكمين في كل ما يخلق. وقيل: أحكم الحاكمين قضاء وعدلاً. والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجاباً، كما تقدّم تفسير قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
وقد أخرج الخطيب، وابن عساكر قال السيوطي بسند فيه مجهول عن الزهري عن أنس قال: لما أنزلت سورة {التين والزيتون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً شديداً حتى تبين لنا شدّة فرحه، فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال: التين بلاد الشام. والزيتون بلاد فلسطين. وطور سيناء الذي كلم الله عليه موسى {وهذا البلد الأمين}: مكة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} محمداً {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين}: عبدة اللات والعزّى: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ {فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين * أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} إذ بعثك فيهم نبياً، وجمعك على التقوى يا محمد، ومثل هذا التفسير من ابن عباس لا تقوم به حجة لما تقدّم من كون في إسناده ذلك المجهول.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {والتين والزيتون} قال: مسجد نوح الذي بني على الجوديّ، والزيتون قال: بيت المقدس: {وَطُورِ سِينِينَ} قال: مسجد الطور. {وهذا البلد الأمين} قال: مكة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} يقول: يردّ إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله، هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.
{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} يقول: بحكم الله.
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضاً {والتين والزيتون} قال: الفاكهة التي يأكلها الناس {وَطُورِ سِينِينَ} قال: الطور الجبل. والسينين المبارك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: سينين هو الحسن.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال: في أعدل خلق: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} يقول: إلى أرذل العمر: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يعني غير منقوص. يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر، وكان يعمل في شبابه عملاً صالحاً كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه، ولم يضرّه ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} قال: لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} يقول: إلى الكبر وضعفه، فإذا كبر وضعف عن العمل، كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته.
وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً».
وأخرج الترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً: «من قرأ: {والتين والزيتون} فقرأ: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين».
وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً: «إذا قرأت {والتين والزيتون} فقرأت: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فقل بلى».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} قال: سبحانك اللَّهم فبلى ا. ه.